بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

 (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا 1 فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا 2 وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا 3 فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا 4 فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا 5) أقسم بطوائف من الملائكة، أرسلهن الله بأوامره متتابعة فعصفن عصف الرياح في امتثال أمره، ونشرت الشرائع في الأرض؛ أو نشرن النفوس الموتى بالجهل بما أوحين من العلم، ففرقن بين الحق والباطل، فألقين إلى الأنبياء ذكرا، (عُذْرًا) للمحققين (أَوْ نُذْرًا 6) للمبطلين.

 

أو بآيات القرآن المرسلة بكل حرف إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فعصفن سائر الكتب والأديان بالنسخ، ونشرن آثار الهدى والحكم في الشرق والغرب، وفرقن بين الحق والباطل، فألقين ذكر فيما بين العالمين.

 

أو بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها، فعصفن ما سوى الحق، ونشرن أثر في جميع الأعضاء، ففرقن بين الحق والباطل في نفسه، فيرون كل شيء هالكا إلا وجهه، فألقين ذكرا بحيث لا يكون في القلوب والألسنة غلا ذكر الله.

أو برياح عذاب أرسلن فعصفن، ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن، فألقين ذكرا أي السببين له، فإن العاقل إذا شاهد هبوبها وآثارها ذكر الله تعالى، وتذكر كمال قدرته. و(عُرْفاً) إما نقيض النكر وانتصابه لعله على العلة؛ أي: أرسلن للإحسان والعروف؛ أو بمعنى المتتابعـة، من عرف الفرس. (عذراً أو نذراً) أي: عذرا للمحققين، ونذرا للمبطلين؛ أو يعم التوحيد والشرك، والإيمان والكفر، (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ 7) معناه: إن الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة.

 

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ 8) محقت، أو ذهب نـورها، ( وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ 9) أي: شقت وصدعت وفتحت فكانت أبوابا، ( وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ 10) كالحب إذا نسف بالمنسف، ( وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ 11) وقتت وهو الأصل؛ ومعنى توقتت الرسل: تبين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أمرهم؛ أو بلغت ميقاتها الذي تنتظره.

 

(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ 12)؟ أي يقال: لأي يوم أخرت؟ وضرب الأجل للجمع، وهو تعظيم لليوم، وتعجيب من هوله، (لِيَوْمِ الْفَصْلِ 13 وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ 14) ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله؟!(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 15) أي: بذلك. و ويل -في الأصل- مصدر منصوب بإضمار فعله، عدل به إلى

الرفع للدلالة على ثبات الهلاك للمدعو عليه؛ ويومئذ ظرفه أو صفته.

 

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ 16) كقوم عاد ونوح وثمود ومن قبلهم من خلقه ممن تعبدهم بالأمر والنهي وعصوا، (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ 17) وهم نظراؤهم وأمثالـهم مثلما فعلنا بهم، لأنهم كذبوا كـتكذيبهم، ( كَذَلِكَ) مثل ذلك الفـعل (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ 18) بكل من أجرم كائنا ما كان، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 19) بآيات الله وأنبيائه وحججه البالغة؛ وليس تكريرا؛ وكذا إن أطلق التكذيب، أو علق في الموضعين بواحد لأن الويل الأول لعذاب الآخرة، وهذا للإهلاك في الدنيا، مع أن التكرير للتأكيد حسن شائع في كلام العرب.

 

 (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ 20) نطفة قذرة ذليلة، ( فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ 21) يعني: الرحم، ( إِلَى قَدَرٍ) مقدور من الوقت  (مَعْلُومٍ 22) قد علمه الله، ( فَقَدَرْنَا) فقدرنا على ذلك؛ أو فقدرنـاه، وتدل عليه قراءة نافع بالتشـديد، (فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ 23 وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 24) بقدرتنا على ذلك. (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا 25) كافته، اسم لما يكفت، أي: يضم ويجمع؛ أو كفت : وهو الوعاء، أجري على الأرض باعتبار أقطارها، ( أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا 26) قيل: يكفت أحياء على ظهرها، وأمواتا في باطنها، (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَات)ٍ جبالا ثوابت طوالا، (وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا 27) بخلق الأنهار والمنابع، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 28) بأمثال هذه النعم.

(انْطَلِقُوا) أي: يقـال لـهم ( إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ 29) من الــعذاب، (انْطَلِقُوا) على الإخبار من امتثالهم للأمر اضطرارا (إِلَى ظِلٍّ) يعني ظل دخان جهنم، كقوله: (وظلِّ مِّن يَحْمُومٍ) . (ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ 30) يتشعب لعظمه، كما يرى الدخان العظيم تتفرق ذوائبه؛ قيل: وخصوصية الثلاث إما لأن حجاب النفس من أنوار القدس: الحس والخيال والوهو؛ او لأن المؤدي إلى هذا العذاب هو القوة الواهمة الحالة في الدماغ، والغضبية التي في يمين القلب، والشهوية التي في يساره، ولذلك قيل: شعبة تقف فوق الكافر وشعبة عن يمينه، وشعبة عن يساره، ( لَا ظَلِيل)ٍ تهكم بهم ورد لما أوهم لفظ الظل ( وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ 31) وغير مغن عنهم من حر اللهب شيئا، ( إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ 32) أي: كل شرارة كالقصر من القصور في عظمها، ويؤيده أنه قرئ بشرار ، وقيل: هو الغليظ من الشجرة، (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ) جمع جمال، ( صُفْرٌ 33) فإن الشرار لما فيه من النارية يكون أصفر؛ وقيل: سود، فإن سود الإبل يضرب إلى الصفر، والأول تشبيه في العظم، وهذا في اللون والكثرة، والتتابع والاختلاط، وسرعة الحركة، وقرئ: جمالات بالضم جمع جمالة، وقد قرئ بها؛ وهي الحبل الغليظ من حبال السفينة، شبهه بها امتداده والتفافه، ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 34) .

 

(هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ 35) أي: لا ينطق بما لا يستحق؛ فإن النطق بما لا ينفع كلا نطق؛ أو لا ينطقون بشيء من فرط الدهشة والحيرة، وهذا في بعض المواقف، ( وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ 36) عطف فيعتذرون على يؤذن ليدل على نفي الإذن والاعتذار عقبيه مطلقا، ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 37).

 

(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ) بين المحق والمبطل ( جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ 38) تقرير وبيان للفصل، ( فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ 39) تقريع على كيدهم للمؤمنين في الدنيا، وإظهار لعجزهم؛ أي: إن كان لكم حيلة مهرب فاحتالوا لأنفسكم، ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 40) إذ لا حيلة لهم في التخلص من العذاب.

 

( إِنَّ الْمُتَّقِينَ ) من الشرك، لأنهم في مقابلة المكذبين، ( فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ 41 وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ 42) مستقرون في أنواع الترفه، ( كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 43) أي: مقولا لهم ذلك زيادة في نعيمهم، كما كان القول للكافرين زيادة في عذابهم، ( إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 44) في العقيدة والعلم والعمل،  (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 45) يمحض لهم العذاب المخلد، ولخصومهم الثواب المؤبد.

(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) حال المكذبين، أي: الويل الثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك، تذكيرا لهم في الدنيا، وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم، ( قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ 46 وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 47) حيث إنهم عرضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل.

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) أطيعوا واخضعوا؛ أو صلوا؛ أو اركعوا في الصلاة؛ وقيل: هو ]يوم[ القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون،  (لَا يَرْكَعُونَ 48) لا يمتثلون، ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ 49).

 

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ 50) إذا لم يؤمنوا به، وهو معجز في ذاته، مشتمل على الحجج الواضحة والمعاني الشريفة.