بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

 

(ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ 1 بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ 2)  أي: ما كفر به من كفر لخلل وجده فيه ...وهو الأستكبار عن الحق، والشقاق خلاف لله ولرسوله، والمراد بالذكر: العظة، وما يحتاج إليه في الدين من العقائد والشرائع والمواعيد، لعله واسم الكفر داخل على المشركين.

 

(كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ) وعيد لهم على كفـرهم به استكبارا وشقاقا،  (فَنَادَوْا ) للإيمان استغاثة وتوبة واستغفارا عند نزول العذاب، (وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ 3) أي ليس الحين حين مناص، والمناص هو المنجا.

 

(وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ)  بشر مثلهم. (وَقَالَ الْكَافِرُونَ ) وضع الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم وذما لهم، وإشعارا بأن كفرهم جسرهم على هذا القول، (هَذَا سَاحِرٌ)  في ما يظهره من الإعجاز.

 

(كَذَّابٌ 4 ) فيما يقول على الله ، وهذا القول من المشركين بلسان المقال، ومن الكافرين كفر النفاق بلسان الحال، (أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)  بأن جعل الألوهية التى كانت لهم لواحد، (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ 5) بليغ في العجب، فإنه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا.

 

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ ) وانطلق أشراف قريش من مجلس رسول الله صلى الله

 

 وعليه وسلم بعدما بكتهم، (أَنِ امْشُوا)  قائلين بعضهم لبعض، (وَاصْبِرُوا ) واثبتوا، (عَلَى آَلِهَتِكُمْ) على عبادتها (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ 6)  إن هذا الأمر لشئ من ريب الزمان يراد بنا فلا مرد له، إن هذا الذي يدعيه من التوحيد ويقصده، من الرئاسة والترفع لشئ يتمنى، أو يريده كل أحد، وأن دينكم يطلب ليؤخذ منكم .

 

(مَا سَمِعْنَا بِهَذَا) بالذي يقوله (فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ)  في الملة التى أدركنا عليها آباءنا، (إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ 7)  كذب اختلقه، (أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا)  انكارا لاختصاصه بالوحي، وجعلوه كأنه مثلهم، أو دون منهم في الشرف والرئاسة، كقولهم: (لولا نُزَّل هَذَا القرآنُ عَلَى رجلٍ مَّن القريَتَيْنِ عظيمٍِ)وأمثال ذلك دليل على أن مبدأ تكذيبهم [ليس] إلا الحسد، وقصور النظر على الحطام الدنيوي؛  ( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) من القرآن لميلهم إلى التقليد، وإعراضهم عن الدليل؛ وليس في عقيدتهم ما ينبئون من قولهم :هذا ساحر، إن هذا إلا اختلاف ،  ( بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ 8 ) بل لم يذوقوا عذابي بعد، فإذا ذاقوه زال شكهم، وثبت يقينهم حين لا ينفعهم؛ والمعنى: أنهم لا يصدقون به حتى يذقوا عذاب الموت، فيلجئهم إلى تصديقه اضطرارا.

 

( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ 9 )؟ بل أعندهم خزائن رحمته، وفي تصرفهم حتى يصيبوا بها ما شاؤوا، ويصرفوا عمن شاؤوا فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم؟؛ والمعنى: إن النبوة عطية من الله يتفضل بها على من يشاء من عباده، فلا مانع له، فإنه العزيز الغالب الذي لا يغلب، الوهاب الذي له أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء، ثم رشح ذلك فقال: ( أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) كأنه لما أنكر عليهم التصرف في نبوته، بأن ليس عندهم

 

 

خزائن رحمته التى لا نهاية لها، أردف ذلك بأنه ليس لهم مدخل في هذا العالم الجسماني، الذي هو يسير من خزائنه. ( فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ 10 ) اي: أن كان لهم ذلك، فليصعدوا في المعارج التى يتوصل بها الى العرش، حتى يستوا عليه، ويدبروا امر العالم، فينزيلون الوحي] على من يستصوبون، وهو غاية التهكم بهم؛ وقيل: المراد بالاسباب: السماوات، لأنها أسباب الحوادث السفلية .

 

( جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ 11 ) أي : جند من الكفار والمتحزبين على الرسل، مهزوم: مكسور عما قريب، فمن أين لهم التدابير الألهية والتصرف في الأمور الربانية؟ فلا تكترث بما يقولون و ما مزيدة للتعليل؛ وهناكإشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول.

 

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ 12 ) ذو الملك الثابت بالاوتاد، كقوله:

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة                      غنوا يعني : أقاموا

                                                في ظل ملك ثابت الأوتاد

   مأخوذ من ثبات البيت المطنب بأوتاد، أو الجموع الكثيرة ، سمو بذلك لأن بعضهم يشد بعضا كالوتد يشد البناء؛ وقيل : نصب أربع سوار، وكان يمد يدي المعذب ورجليه إليها، ويضرب عليها أوتادا، ويتركه حتى يموت .

 

( وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ ) أصحاب الغيضة، وهم قوم شعيب،(أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ) المتحزبون على الرسل؛ ( إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ 14  ) عليهم في الـدارين. ( وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ ) ومـا ينتظر قومـك (إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) وهو انتظار كل عاص على الانفراد لاعقاب الموت كان بسبب كالقتل ونحوه،أو غير سبب وهو حتف أنفه، (مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ 15) من توقف مقدار فواق وهو ما بين الحلبتين .

 

( وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا )  قيل: إنه الموت أو العذاب، ( قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ 16 ) استهزاء؛  وقيل: القط : هو الخط ، فسالوا حظهم من العقاب قبل يوم الحساب استـهزاء منهـم بالنبي وبالقـرآن، والله يستـهزئ بهم وهـو كـقوله:(ويستعجلونك بالعذاب) .

 

(اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ) واذكر قصته تعظيما للمعصية في أعينهم ، فإنه مع علو شأنه واختصاصه بعظائم النعم، لما آتى سيئة نزل عن منزلته، ودخل عليه الملائكة بالتمثيل والتعريض، حتى تفطن واستغفر؛  أو تذكر قصته؛ وصن نفسك أن تزل فيلقاك ما لقيه من المعاتبة على إهمال عنان نفسه أدنى إهمال، (ذَا الْأَيْدِ)   ذا القوة، ( إِنَّهُ أَوَّابٌ17 )  رجاع إلى مرضاة الله، وهو تعليل اللأيدي، دليل على أن المراد به: القوة في الدين، كان يصوم يوما ويفطر يوما.

 

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ ) للـدلالة على تجدد التسبيـح حالا بعد حال،  (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ 18 وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ) أي: مجموعة إليه من كل جانب،  (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ 19 ) كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيحه رجاع إلى التسبيح؛ والفرق بينه وبين ما قبله أنه يدل على الموافقة في التسبيح، وهذا على المداومة عليها؛ أو كل منها ومن داوود مرجع إلى الله التسبيح؛ (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ )

وقويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود، (وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ) النبوة أو كمال العلم، وإتقان العمل، (وَفَصْلَ الْخِطَابِ 20 ) فصل الخصام، بتميز الحق عن الباطل، والكلام الملخص، الذي ينبه المخاطب من غير التباس، يراعى به مظان الفصل والوصل.

 

(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ) استفهام معناه التعجب والتشويق إلى استماعه، (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ 21 ) إذ تصعدوا سور الغرفة، (إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ) قيل: لأنهم نزلوا عيه من فوق في يوم الاحتجاب، والحرس على الباب لا يتركون من يدخل عليه، فإنه قيل: جزأ زمانه: يوما للعبادة، ويوما للقضاء، ويوما للوعظ ، ويوما للاشتغال بخاصته، فتسور عليه ملائكة على صورة إنسان في يوم خلوة . 

 

(قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ ) نحن فوجان متخاصمان، على تسمية مصاحب الخصم خصما، ( بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ ) ولا تجر في الحكومة، ( وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ 22 ) إلى وسطة، وهوالعدل. ( إِنَّ هَذَا أَخِي  ) بالدين أو الصحـبة( لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ)  هي الانثى من الضأن ، وقد يكنى بها على المرأة، والكناية والتمثيل فيما يساق للتعريض أبلغ في المقصود؛ (فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا) ملكنيها، وحقيقته اجعلني اكفلها كما أكفل ما تحت يدي؛ وقيل: اجعلها كفلي [أي] نصيبي، (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ 23 ) وغلبني في مخاطبته إياي. 

 

( قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ ) الشركاء

الذين خلطوا أموالهم (لَيَبْغِي ) ليتعدى (بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) الذين عادتهم دون الأولين، (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ) ابتلينـاه بالذنب وامتحنـاه بتلك الحـكومة، (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ) لذنبـــه،

(وَخَرَّ رَاكِعًا ) ساجدا على تسمية السجود [ركوعا]  (وَأَنَابَ 24 ) ورجع إلى الله بالتوبة.

 

(فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ)  أي: ما استغفر عنه، (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى) لقربة بعد المغفرة (وَحُسْنَ مَآَبٍ 25 ) مرجع في الجنة، (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) استخلفناك على الملك فيها، أو جعلناك خليفة من قبلك من الانبياء والقائمين بالحق، (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) بحكم الله ، (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى)  ماتهوى النفس، وهويؤيد ما قيل: إن ذنبه المبادرة إلى تصديق المدعي، وتظليم الاخر قبل مسألته، ( فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) دلائله التى نصبها على الحــق،

 (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) عاجلا و آجلا (بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ 26) بسبب نسيانهم، وهو ضلالهم عن السبيل، فإنه بذكره تقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى.

 

(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا)  خلقا باطلا لا حكمة فيه، أو مبطلين عابثين؛ (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الإشارة إلى خلقها باطلا، (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ 27 ) بسبب هذا الظن . ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ 28 ) لم نساو بينهم في الجزاء ، كما لم يستوو في العمل .

 

(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ) نفاع، (لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ)  ليتفكروا فيها، فيعرفوا تدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة ، والمعاني المستنبطة، (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ 29 ) وليتعظ به ذو العقول السليمة، وليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم، من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليهم من الدلائل؛ فإن الكتب الإلهية بيان لما لا يعرف إلا من الشرع ، وإرشاد إلى ما لا لعله يستقبحه العقل، ولعل التدبر للعلوم الأول ، والتذكر للثاني .

 

(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ 30) رجــاع إلى الله بالتـوبة.

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ)  بعد الظهر (الصَّافِنَاتُ )الصوافن من الخيل: الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل ، وهو من الصفات المحمودة في الخيل، لا تكاد تكون إلا في العرب الخلص ( الْجِيَادُ 31 ) جمع جواد. (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ 32 رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ 33) لأن كل ما يشغل عن الله فلا خير في الاشتغال به.

 

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ 34 قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) قيل : لا يصح لأحد من بعدي لعظمته، (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ 35 فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً ) لينة من الرخاوة لا تزعزع، ولا تخالف إرادته، كما المأمور المنقاد،(حَيْثُ أَصَابَ 36 وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ 37 وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ 38) فأعط من شئت ، وامنع من شئت (بِغَيْرِ حِسَابٍ 39 َوإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى)  في الآخرة، مع ما له من الملك العظيم في الدنيا، (وَحُسْنَ مَآَبٍ 40)  .

 

(وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ) بتعب ( وَعَذَابٍ 41 ) ألم؛ أضاف ذلك إلى الشيطـان لأنه لعله بسبب طـاعته له، كما قال: (وَمَا أصابَكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم () ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ 42 وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ 43 )وتذكيرا لهم لينتظروا الفرج بالصبر، والالتجاء إلى الله فيما يحيق بهم . ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا ) الضغث: الحزمة الصـغيرة من الحشيش ونـحوه؛ (فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ) فيما أصابه، وفيما تعبد به، (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ 44).

 

(وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ 45) أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين؛ أو إلى الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة؛ فعبر بالأيدي عن الأعمال ، لأن كثرتها بمباشرتها؛ وبالأبصار عن المعارف، لأنها أٌقوى مبادئها؛ وفيه تعريض للبطلة والجهال أنهم كالزمنى والعماة . (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ)  جعلناهم خالصين لنا بخصلـة خالصة لا شوب فيها هي  : (ذِكْرَى الدَّارِ 46) تذكرهم للآخرة دائما، فإن خلوصهم في الطاعة بسببها، وذلك لأن مطمح نظرهم فيما يأتون ويذرون رضاه ولقاء ثوابه، والخوف من عقابه؛ وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار الحقيقية، والدنيا معبرها . ( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ 47 ) لمن المختارين من أمثالهم ، المصطفين عليهم في الخير .

 

(وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ 48) .

 

(هَذَا ) إشارة إلى ما تقدم من أمورهم، (ذِكْر) شرف لهم، أو نوع من الذكر، وهوالقرأن؛ ثم شرع في بيان ما أعد لهم ولأمثالهم، فقال: (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ 49 ) مـرجع ( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) عطف بيـان لـ   حسـن مـأب ،

(مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ 50 مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ 51 ) الاقتصار على الفاكهة للإشعار بأن أجزاءهم محض التلذذ؛ فإن التغذي للتحلل ولا تحلل هناك ، ثم ( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ 52 ) لدات لهم؛ فإن التحاب بين الاقران أثبت، أو بعضهن لبعض لا عجوز فيهن ولا صبية.

 

( هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ 53 ) لأجله، فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء. ( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ 54 ) انقطاع . 

 

(هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ 55 ) مرجع، ضد مأب المتقين. (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ 56 ) المفترش؛ مستعار من فراش النائم .(هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ 57 ) الغساق: قيل ما يغسق من صديد أهل النار؛ من غسقت العين: إذا سال دمعها. ( مِنْ شَكْلِهِ ) أي: مذوق ،أو عذاب أخر،وقرئ: أخر ، أي: مذوقات، او أنواع عذاب أخر ( أَزْوَاجٌ 58 )من مثل هذا المذوق، أو العذاب في الشدة (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ)  أجناس لا يعلمها الا الله ، ومن أعلمه بذلك.

 

(هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) حكاية ما يقال للرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار، واقتحمها معهم فوج تبعهم في لعله الضلال؛ والاقتحام: ركوب الشدة، والدخول فيها؛ وذلك [أن] القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع؛ قالت الخزنة للقادة : هذا – يعني: الأتباع- فوج جماعة مقتحم معكم ، قالت: (لَا مَرْحَبًا بِهِمْ)  دعاء من المتبوعين على أتباعهم، والمرحب، أي ما أوتوا بهم رحبا وسعة، (إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ 59 ) داخلين النار بأعمالهم مثلنا.

 

( قَالُوا ) أي: الأتباع للرؤساء: ( بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ ) بل انتم أحق بما قلتم، ( أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا ) قدمتم العذاب لنا بإغوائنا على ما قدمتم من العقائد الزائغة، والأعمال القبيحة، (قَالُوا فَبِئْسَ الْقَرَارُ 60 ) فبئس المقر جهنم . ( قَالُوا ) أي: الأتباع أيضا: (رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا)  أي : شرعة وسنه، ( فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ 61 ) مضاعفا، أي: ذا ضعف، وذلك أن تزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين، كقوله: (رَبَّنَا آتهم ضعفين مِنَ العذاب) .

 

(وَقَالُوا ) اي: الطاغون:(مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ 62 )؟ يعنون فقراء المسلمين الذين يسترذلونهم ويسخرون منهم. (أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ ) مالت (عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ 63 ) فلا نراهم، أو المراد : الدلالة على أن استرذالهم والاستسخار منهم كان لزيغ أبصارهم، وقصور نظرهم على رثاثة حالهم. (إِنَّ ذَلِكَ ) الذي حكينا عنهم ( لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ 64 ) لا بد من وقوعه.

 

(قُلْ) يا محمد للعاصين: (إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ) أنذركم عذاب الله ،(وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ) الذي لا يقبل الشركة والكثرة في ذاته ، (الْقَهَّارُ 65 ) لكل شئ.(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) منه إبداؤها وإليه إإيعادها، (الْعَزِيزُ ) لا يغلب، (الْغَفَّارُ 66 ) الذي يغفر لمن تاب، وفي هذه الأوصاف تقرير للتوحيد ووعد للموحدين، ووعيد لمن عداهم.          

       

(قُلْ هُوَ)  أي : ما أنبأتكم به من أني نذير من عقوبة من هذا صفته، وأنه واحد في الألوهية، (نَبَأٌ عَظِيمٌ 67 أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ 68)  لتمادي غفلتكم ، فإن العاقل لا يعرض عن مثله، كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة، إما على التوحيد فيما مر، وإما على النبوة في قوله: (مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ 69 )فإن اخباره عن تقاول الملائكة وما جرى بينهم على ما وردت في الكتب المتقدمة، من غير سماع أو مطالعة كتاب، لا يتصور الا بالوحي. وإذ متعلق بـعلم أو محذوف ، إذ التقدير : من علم بكلام الملإ الأعلى.( إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ 70)  أي: لأنما ، كأنه لما جوز أن الوحي ثابت، بين بذلك ما هو المقصود به، تحقيقا لقوله: (إنَّما أنا نذير).            

 

(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ 71)  بـدل من إذ يختصمون مبين له، فإن القصة التى دخلت إذ عليها مشتملة على تقاول الملائكة وإبليس في خلق أدم ، واستحقاقه  للخلافة والسجود على ما مر في البقرة، غير أنها اختصرت إكتفاء بذلك، واقتصارا على ما هو المقصود منها ، وهو إنذار المشركين على استكبارهم على النبي صلى الله وعليه وسلم بمثل ما بإبليس على استكباره على أدم، هذا ولعله يجوز أن يكون مقاولة الله إياهم بواسطة ملك، وأن يفسر الملأ الأعلى بما يعم الله تعالى والملائكة .

 

(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ) عدلت خلقته (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)  وأحييته بنفخ الروح فيه؛ وإضافته إلى نفسه لشرفه وطهارته، (فَقَعُوا لَهُ)  فخـروا له (سَاجِدِينَ72 ) خاضعين او منقادين له، أو مؤتمين به؛ ولعل هذه الأية تشهد لمن قالإن المؤمنين من بني أدم أفضل من الملائكة، ومما يقوي معنى هذا القول قول إبليس لعنه الله: ( أنا خيرٌ مِنْهُ   والأفضل لا يسجد لمن دونه، ولا ينقاد له . (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ 73 إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ)تعظم،(وَكَانَ ) وصار ( مِنَ الْكَافِرِينَ 74 ) باستكباره عن أمر الله ، وكان منهم في علمه.

 

(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ 75) تكبرت من غير استحقاق. ( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ 76 قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا ) من السماء، أو من الصورة الملكية،

(فَإِنَّكَ رَجِيمٌ 77)  مطرود من الرحمة ومحل الكرامة. ( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ 78) علم الله منه الاصرار، وأنه لا يتوب إلى يوم النفخة الإولى، لقوله : (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 79 قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ 80 إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ 81 قَالَ :فَبِعِزَّتِكَ)  فبسلطانك وقهرك( لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 82 إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ 83) الذين أخلصهم الله لطاعته، وعصمهم من الضلالة، او أخلصوا قلوبهم لله ، على اختـلاف القرائن، (قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ 84 ) أي: أحق الحق وأقوله، ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ 85 ) .

 

(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) بتبليغ الوحي، (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ 86 ) المتصنعين بما لست أهله ما عرفتم من حالي، فأنتحل النبوة ، وأتقول القرأن ،

 

 وكل من قال شيئا من تلقـاء نفسه فهو متكلف . ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ ) عظـة

(لِلْعَالَمِينَ 87 ) للثقلين، (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) بما أخبرتكم من التوحيد والجزاء عليه وهو ما فيه من الوعد والوعيد ، (بَعْدَ حِينٍ 88 ) عند الموت .