بسم الله الرحمن الرحيم

 

 {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } الظاهر إعجازه وصحته ، والإشارة إلى السورة ، أو القرآن.

{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} قاتل نفسك ، وقرىء :" باخع نفسك" بالإضافة ، و"لعل" للإشفاق أي: اشفق على نفسك أن تقتلها ، {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} لئلا يؤمنوا ، أو خيفة أن لا يؤمنوا ، وذلك أنه لما كذبه أهل مكة شق عليه ، فأعلمه الله تعالى أنه لو شاء لاضطرهم . {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً} دلالة ملجئه إلى الإيمان ، {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} منقادين يذلون لها ، فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله. {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ} موعظة ، أو طائفة من القرآن . {مِّنَ الرَّحْمَنِ} بوحيه إلى نبيه ، {مُحْدَثٍ} مجدد إنزاله ، لتكرير التذكير وتنويع التقرير ، ويدخل في ذلك الآيات الإهامية والسماوية والأرضية ، إذا قامت عليه حجتها لمعرفتها ، {إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} إلا جددوا إعراضا عنه ، وإصرار على ما كانوا عليه. {فَقَدْ كَذَّبُوا} بالذكر بعد إعراضهم ، فأمعنوا في تكذيبه ، بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به ، المخبر به عنهم ضمنا في قوله:{ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء} أخبار وعواقب {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} من أنه كان حقا أم باطلا ، وكان حقيقا بأن يصدق ويعظم قدره ، فصاروا بالإعراض والكذب مستهزئين.

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ} أولم ينظروا إلى عجائبها ، {كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ} صنف {كَرِيمٍ} محمود كثير المنفعة ، وهو صفة لكل ما يحمد ويرضى ، وههنا يحتمل أن تكون مفيدة لما تتضمن الدلالة على القدرة ، وأن تكون مبينة منبهة على أنه ما من نبت إلا وله فائدة ، إما وحده أو مع غيره ، و"كل" لإحاطة الأزواج ، و"كم" لكثرتها . {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إن في إثبات تلك الأصناف ، أو في كل واحدة {لَآيَةً} على أن منبتها تام القدرة والحكمة ، سابغ النعمة والرحمة ، مستحق للحمد والشكر ، وهذه الآية من آيات القرآن... ، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} في علم الله وقضائه ، فلذلك لا تنفعهم أمثال هذه الآيات العظام . {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} الغالب القادر على الانتقام من الكفرة ، {الرَّحِيمُ} حيث أمهلهم ، أو العزيز في انتقامه ممن كفر ، الرحيم لمن تاب وآمن.

{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى:أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ } ألا يصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته.

{قَالَ: َبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي } بسبب تكذيبهم إياي ، {وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي} فإن انطلاق اللسان على قدر وسع الصدر ، {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} (لعله) كأنه رآه مستأهلا للرسالة بوجود صفات {فيه} . {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ} إنما سماه ذنبا على زعمهم ، {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} قوله ذلك ليس تعللا ، إنما هو استدفاع للبلية المتوقعة .

{قَالَ كَلَّا}(لعله) بالذهاب كليهما ، ويكون المقدم في الرسالة موسى ، وهارون (لعله) وزيرا له ، {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا:إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}.

{قَالَ : لَمْ نُرَبِّكَ فِينَا} في منازلنا {وَلِيدًا} سمي به لقربه من الولادة ، أقبل بخطابه لموسى دون هارون ، لأنه هو المقدم في الرسالة ، أو من قبل الغيظ الكامن عليه ، {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } بنعمتي.

{قَالَ:فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} المعنى: من الفاعلين فعل أولي الجهل والسفه. {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} حكمة ، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فيالها من هبة ما أعظمها !. {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: وتلك التربية نعمة تمنها علي ظاهرا وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل.

{قَالَ فِرْعَوْنُ : وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}؟ لما سمع جواب ما طعن به فيه ، ورآى أنه لم يرعو بذلك شرع في الاعتراض على دعواه ، فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل.

{قَالَ : رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} عرفه بأظهر خواصه وآثاره ، لما امتنع تعريف الأفراد إلا بذكر الخواص والأفعال ، وإليه أشار بقوله:{ إن كُنتُم مُّوقِنِينَ} أي: إن كنتم موقنين الأشياء ، محققين لها علمتم أن هذه الأجرام المحسوسة ممكنة لتركيبها وتعددها ، وتغير أحوالها ، فلها مبدأ واجب لذاته. قال أهل المعاني: أي كما توقنون هذه الأشياء التي تعاينوها ، فأيقنوا أن له الخلق ، هو الله عزوجل.

{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ : أَلَا تَسْتَمِعُونَ} وذلك من قول فرعون لمن حوله يتكلم بكلام من لاعقل له ، لا يعقله ولا يعرف صحته. {قَالَ} موسى مفهما لهم ، وملزما للحجة عليهم ، {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ } فرعون:{ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} إلى زعمه ودعواه.

{قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا} (لعله) يشاهدون كل يوم أنه يأتي بالشمس من المشرق ، ويرحكها على مدار اليوم الذي قبله ، حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع ، تنظم به أمور الكائنات ، {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ} فرعون حين لزمته الحجة ، (لعله) وانقطع عن الجواب تكبرا عن الحق:{ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} عدولا إلى التهديد عن المحاجة بعد الانقطاع ، وهكذا ديدن المعاند المحجوج.

{قَالَ:  أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ} بحجة بينة ، وإنما قال ذلك موسى ، لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف ، والإجابة إلى الحق بعد البيان. {قَالَ: فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.

{فَأَلْقَى عَصَاهُ ، فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ، فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ : لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } قائق في علم السحر. {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ ، فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}؟ بهره سلطان المعجزة ، حتى حطه عن دعوى الربوبية ، إلى مؤامرة القوم وائتمارهم ، وتنفيرهم عن موسى ، وإظهار الاستشعار عن ظهوره ، واستلائه على ملكه.

{قَالُوا : أَرْجِهِ وَأَخَاهُ} أخر أمرهما ، {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ *  فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ : هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ } لأن اتباعهم أشهى من اتباع موسى وأخيه ، ومقصودهم الأصلى ألا يتبعوا موسى ، وإن قامت له الحجة.

{فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ ، قَالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} لأن ديدن أهل الدنيا لا يعملون إلا بالجعالة لها ، وأهل الآخرة يعملون للآخرة ، والذين هم فارطون منها جميعا ، لا يعملون لشيء ، ولا في شيء. {قَالَ : نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وعدهم بالجاه ، لأنه أملك بالأحوال معهم.

{قَالَ لَهُم مُّوسَى: أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ} لم يرد به أمرهم بالسحر والتمويه ، بل الأدب في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة ، توسلا به إلى إظهار الحق . {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ، وَقَالُوا : بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ ، فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } ما يقلبونه بتمويههم وتزويرهم.

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} لعلمهم بأن مثله لا يأتي بالسحر ، وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لا حقيقة له . {قَالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ :آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } اراد به التلبيس على قومه ، كيلا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة ، وظهور حق ، {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ، لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}.

{ قَالُوا : لَا ضَيْرَ} لا ضرر علينا ، وذلك لأنه لا يضرهم ما ينالهم من الضر في دنياهم ، لأنهم على حقيقة من الأمر ، ولو أنهم على العكس لضرهم أقل من ذلك ، إذ يكون عليهم عذابا ، لأنهم لا يبتغون به ثوابا ، {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} لأنه لم يكن دائما ، كما قالوا: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }. {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} أول من آمن بموسى .

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} يتبعكم فرعون وجنوده .(لعله) قيل: خروج فرعون في الكراسي العظيمة . {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} يحشرون الناس ، يعني: الشرط ليجمعوا السحرة والجيش ، وقيل: إن المدائن ألف مدينة ، واثنتي عشر ألف قرية. {إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } لفاعلون ما يغيظنا . {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} وإنا لجميع من عادتنا الحذر واستعمال الحزم في الأمور ، أشار أولا إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم ، ثم إلى تحقق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم ، ووجوب التيقظ في شأنهم ، حثا عليه .

{فَأَخْرَجْنَاهُم} بأن خلقنا داعية الخروج بهذا السبب ، فحملتهم عليه ، {مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } يعني: المنازل الحسنة ،والمجالس البهية . قيل: كان لفرعون ثماني مائة ألف غلام ، كل غلام على فرس ، في عنق كل فرس طوقا من ذهب ، والبساتين كانت على حافتي النيل . {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ ، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } لما رأو من هنا البحر ، ومن هنا القتل. {قَالَ :كَلَّا} لن يدركونا {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} كما وعدني.

{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى : أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ، فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} كالجبل المنيف الثابت في مقره . {وَأَزْلَفْنَا} قربنا {ثَمَّ الْآخَرِينَ} فرعون وقومه حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم ، وهذه آية عظيمة لو اعتبروا بها ، لكن الضال لا يهتدي. {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ} بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا. {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } وما تنبه عليها أكثرهم ، إذ لم يؤمن بها أحد ، فمن بقي في مصر من القبط وبني إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها ، واتخذوا العجل ، وقالوا:{ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } . {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} المنتقم من أعدائه ، {الرَّحِيمُ} بأوليائه.

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ} هو {لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: مَا تَعْبُدُونَ}؟ سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة. {قَالُوا : نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} فأطالوا جوابهم لشرح حالهم ، افتخارا به ، و "نظل" ههنا بمعنى: ندوم. {قَالَ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} دعاءكم {إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ} على عبادتكم لها {أَوْ يَضُرُّونَ}؟ من أعرض عنها. {قَالُوا : بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} أضربوا عن أن يكون لهم سمع ، أو يتوقع منهم ضر أو نفع ،{وإنما} التجأوا إلى التقليد.

{قَالَ : أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } فإن التقدم لا يدل على الصحة ، ولا ينقلب به الباطل حقا. {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي} وأنا بريء منهم ، والمعنى: أن كل معبود لكم عدو لي. فإن قيل: كيف وصف الأصنام بالعداوة وهي جمادات؟ قيل: معناه فإنهم عدو لي لو عبدتهم يوم القيامة ، كما قال:{ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } . {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } لأنه يهدي كل مخلوق لما خلق له من أمور المعاش والمعاد ، كما قال: { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } هداية مقدرة مدرجة من بدإ إيجاده إلى منتهى أجله ، يتمكن بها من جلب المنافع ، ودفع المضار ، مبدؤها بالنسبة إلى الإنسان: هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم ، ومنتهاها: الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بلذائذها.

{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } عطف على " يطعمني ويسقين" لأنه من روادفهما من أن الصحة والمرض في الأغلب يتبعان المأكول والمشروب ، وإنما لم ينسب المرض إليه ، لأن المقصود تعديد النعم ، ولا تنقص بإسناد الإماتة إليه ، فإن الموت من حيث لا يحس به لا ضرر فيه ، وإنما الضرر في مقدماته وهي المرض ، ثم إنه لأهل الكمال وصلة إلى نيل المحاب التي تستحقر دونها الحياة الدنيوية ، وخلاص من أنواع المحن والبلية ، ولأن المرض في غالب الأمر إنما يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه. {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} كمالا في العلم والعمل ، استعد به {لـ}ـخلافة الحق ، ورئاسة الخلق ، { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} ووفقني في العلم والعمل ، لأنتظم به في عداد الكاملين في الصلاح ، الذي لا يشوب صلاحهم بفساد.

{وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} لسان مقالي ، ولسان حالي . {وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ } طريق الحق. {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي: لا ينفعان أحدا إلا مخلصا سليم القلب عن الكفر وميل المعاصي وسائر آفاته. ومن كتاب بيان الشرع:" وقال في قول الله تعالى:{ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} قال: ليس في قلبه إلا الله وأمره ، خالصا لا غير ذلك ، وإلا فالهلاك ، على  معنى قوله. وقيل: { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} قيل: سليم من الذنوب ، وأمرهما واحد".

{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} أي: طويت مسافتها { لِلْمُتَّقِينَ} الطائرين لها { وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} السالكين سبيلها . { وَقِيلَ: لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ ؟ فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ } أي: الآلهة وعبدتهم ، والكبكبة : تكرير الكب لتكرير معناه ، كأن من ألقي في النار ينكب مرة بعد أخرى ، وقيل: طرح بعضهم على بعض. { وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} متبعوه من عصاة الثقلين ِأو شياطينه.

{ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} وباختصامهم فيها يعذبون:{ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: في استحقاق العبادة والألوهية ، والمعنى: أنهم مع تخاصمهم في مبدإ ضلالهم ، معترفون بانهماكهم في الضلالة ، متحسرون عليها . { وَمَا أَضَلَّنَا} أي: وما دعانا إلى الضلالة الذين اقتدينا بهم ، { إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } رجعة إلى الدنيا ، { فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر ، فإنها جاءت على أنظم ترتيب ، وأحسن تقرير ، يتفطن المتأمل فيها لغزارة علمه ، لما فيها من الإشارة إلى أصول العلوم الدينية على دلائلها ، وحسن دعوته للقوم ، وحسن مخالفته معهم ،وكمال إشفاقه عليهم ، وقصور الأمر في نفسه . وإطلاق الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضا وإيقاظا ، ليكون أدعى لهم إلى الاستماع والقبول ، { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.

{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ:أَلَا تَتَّقُونَ } الله فتتركوا غيره. { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} على الوحي والرسالة . { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله . { وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } لأن الأمانة وترك السؤال للأجر ، والعمل(لعله) لأجر الله من دلائل الرسالة لو اعتبروا . {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } .

{قَالُوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}؟ الأقلون جاها ومالا ، وهذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم على الحطام الدنيوية، حتى جعلوا اتباع المقلين فيها مانعا عن اتباعهم وإيمانهم بما يدعوهم إليه ، ودليلا على بطلانه ، واشاروا بذلك على أن اتباعهم ليس من نظر وبصيرة ، وإنما هو لتوقع مال ورفعة ، فلذلك {قَالَ: وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أنهم عملوه إخلاصا ، أو طمعا في طعمة ، وما علي{إلا} اعتبار الظاهر. {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} ما حسابهم على بواطنهم إلا على الله {لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ }.

{قَالُوا: لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ * قَالَ: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } المملوء. {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} لمن آمن ، { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.

{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ : أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } تصدير القصص بها دلالة على أن البعثة مقصورة على الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو إلى ثوابه ، ويبعده عن عقابه ، وكان الأنبياء متفقين على ذلك ، وإن اختلفوا في بعض التفاريع ، مبرؤون عن المطامع الدنية ، والأغراض الدنيوية.

{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} بكل مكان مرتفع ، أو بكل طريق ، وقيل: هو الفج بين الجبلين {آيَةً} أي: علامة {تَعْبَثُونَ}؟! لمن مر بالطريق ، وقيل: إنهم كانوا يبنون المواضع المرتفعة ليشرفوا على المارة والسابلة . { آيَةً}: للمارة ، { تَعْبَثُونَ} ببنائها ، إذ كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم ، فلا يحتاجون إليها ، أو بنيانا يجتمعون إليها للعبث بمن يمر عليهم ، أو قصورا يفتخرون بها ، والعبث لا ينفع عمله إذا عمل ، ولا يضر تركه إن ترك ، وعمله والاشتغال به في لا شيء ، بل يشغل عما ينفع . { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} مآخذ الماء ، وقيل: قصورا مشيدة وحصونا { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} فتبنون بناء التخليد ، { وَإِذَا بَطَشْتُم} بسيف أو سوط أو لسان ، { بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} متسلطين غاشمين بلا رأفة ، ولا قصد تأديب ، ولا نظر في العاقبة . { فَاتَّقُوا اللَّهَ} بترك هذه الأشياء ، { وَأَطِيعُونِ} فيما أدعوكم إليه. { وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ} كرره مرتبا على إمداد الله إياهم بما يعرفونه من أنواع النعم ، تعليلا وتنبيها على الوعد عليه بدوام الإمداد ، والوعيد على تركه بالانقطاع . { أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } ثم أوعدهم فقال:{ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في الدنيا والآخرة.

{ قَالُوا : سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ*إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ } ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأولين ، أو ما هذا خلقنا إلا كخلقهم نحيى ونموت ، وهي إعادة من سبق نعيش كما عاشوا ، ونموت كما ماتوا بلا بعث ولا جزاء. { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} على ما نحن عليه ، لأن عذابهم ليس ليس بحسي ، وإنما هو يعرف بالتمييز بين الموافقة والمخالفة ، فلذلك لم يحسوا به ، وقالوا: وما نحن بمعذبين ، وهم معذبون به في الدارين ، إلا من تاب. { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.

{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ : أَلَا تَتَّقُونَ ؟*إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ }؟ أي: في الدنيا آمنين من مكر الله وعذابه ؟ إنكار لأن يتركوا كذلك ، أو تذكير بالنعمة في تخلية الله إياهم في أسباب تنعمهم آمنين ، ثم فسره بقوله:{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } لطيف هين ، وإفراد النخل لفضله على سائر أشجار الجنات. { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} قيل: بطرين ، أو حاذقين ، من الفراهة وهي النشاط ، فإن الحاذق يعمل بنشاط وطيب قلب ، وقرىء: {فرهين} وهو أبلغ. { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} في العمل. { وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ } لأن المسرف لن يقع منه صلاح لنفسه أصلا ، لأن أعماله غير مقبولة منه ، ومردودة عليه ، وإن وقع منه صلاح لغيره فذلك تسخير منه ، وهو بمعزل عن نفعه.

{ قَالُوا : إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } قيل: الذين سحروا كثيرا حتى غلب على عقلهم ، أو من ذوي السحر. { مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.

{ قَالَ : هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ} نصيب من الماء ، { وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} فاقتصروا على شربكم ولا تزاحموها في شربها. { وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} بضرب أو عقر ، { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ما يحل فيه ، وهو أبلغ من تعظيم العذاب.

{ فَعَقَرُوهَا} أسند العقر إلى كلهم ، لأن عاقرها إنما عقرها برضاهم ، ولذلك أخذوا جميعا ، { فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} في عقرها ، خوفا من حلول العذاب لا توبة ، أو عند معاينة العذاب ، ولذلك لم ينفعهم . { فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} أي: العذاب الموعود ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} فيحملهم إيمانهم على التدبر والاعتبار للآيات . { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} في نفي الإيمان عن أكثرهم في هذا المعرض ، إيماء بأنه لو آمن أكثرهم أو شطرهم لما أخذوا بالعذاب ، وأن قريشا إنما عصموا عن مثله ببركة من آمن منهم ، هكذا قيل.

{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ: أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } متجاوزن عن حد الشهوة ، حيث زادوا على سائر الناس بل على الحيوانات. { قَالُوا : لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ: إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ } من المبغضين.   { رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} أي: من شؤمه وعذابه.

{ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ } مقدرة في الباقين في العذاب. { ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.

{ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} قيل: الأيكة غيضة تنبت ناعم الشجر. {إِذْ قَالَ لَهُمْ} أخوهم {شُعَيْبٌ: أَلَا تَتَّقُونَ} وقيل: الأيكة: شجر ملتف ، وكان شجرهم الدوم ، وهو المقل. {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } لما أبقوا معنى دعوتهم لقومهم أنبأ على معنى خطابهم بلفظ واحد ، وهو قوله:{ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } فصار كأنه لسان قائل واحد منهم. {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} حقوق الناس . {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ } ولا تنقصوهم شيئا من حقوقهم ، {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ } وذوي الجبلة الأولين ، يعني: من تقدمهم من الخلائق.

{قَالُوا: إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء } قطعة منها {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } ويعد أنه ينزل عليكم في وقته المقدر له. {فَكَذَّبُوهُ، فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} على نحو ما اقترحوا ، بأن سلط الله عليهم الحر سبعة أيام ، فأظلتهم سحابة ، فاجتمعوا تحتها ، فأمطرت عليهم نارا ، فاحترقوا على ما قيل ، {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } هذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار ، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتهديد للمكذبين به ، واطراد نزول العذاب على تكذيب الأمم بعد إنذار الرسل به ، واقتراحهم له استهزاء ، وعدم مبالاة به.

{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ } تقرير لحق القرآن ، وتنبيه على إعجازه ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الإخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحيا من الله. و"القلب" إن أراد به الروح فذالك ، وإن أراد به العضو فتخصيصه ، لأن المعاني الروحانية تنزل أولا على الروح ، ثم تنتقل منه إلى القلب لما بينهما من التعليق ، ثم تتصعد منه إلى الدماغ ، فينتقش بها لوح المتخيلة. والروح الأمين: جبريل ، فإنه أمين الله على وحيه ، أمين من الزيادة والنقصان عما أمر به وأوحي إليه. وهكذا ينبغي لكل عالم لأهل زمانه ، وإلا وقع في الخيانة من حيث لا يشعر ، {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } واضح المعنى ، لئلا يقولوا لا نفهمه. {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} وإن ذكره ، أو معناه لفي الكتب المتقدمة.

{أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً} على صحة القرآن ، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، {أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} أن يعرفوه . {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ} كما هو زيادة في إعجازه ، أم بلغة العجم . {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} لفرط عنادهم واستكبارهم ، أو لعدم فهمهم واستنكافهم من اتباع العجم.

{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} أدخلناه {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} إلزاما للحجة إن كان الضمير للقرآن ، وقيل: الضمير للكفر. {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} هو الموت الملجىء إلى الإيمان. {فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا : هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } في الدنيا وأبقيناهم {كذا}

{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ؟ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ } وذلك أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إلى متى توعدنا العذاب؟ ، فأنزل الله تعالى:{ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ } يعني: العذاب. {مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب وتخفيفه ، لأنهم لم يستعدوا به دفع العذاب. {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} أنذورا أهلها إلزاما للحجة. {ذِكْرَى} بما تذكرهم الحجة ، {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} فنهلك قبل الإنذار.

{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ} أي: القرآن ، {الشَّيَاطِينُ} كما زعم المشركون بأنه من قبيل ما يلقي الشيطان على الكهنة. {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ} وما يصح لهم أن يتنزلوا به ، {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} وما يقدرون. {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ} عن استراق السمع لكلام الملائكة  {لَمَعْزُولُونَ} لأنه مشروط بمشاركة في صفاء الذوات ، وقبول فيضان الحق ، والانتقاش بالصور الملكوتية ، ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات ، لا تقبل ذلك ، والقرآن مشتمل على حقائق ومغيبات ، لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة ، لأن القرآن نور إلهي ، والنفوس الشيطانية من الجن والإنس ظلمانية ، فلا يجتمع النور والظلمة ، كما قال: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } ولا يصح أن يحمله شياطين الإنس والجن حمل انتفاع ، ولكن يجوز أن يحملوا إياه ، ويهدوا به هدي البيان ، إبلاغا للحجة.

{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} وهو يقتضي نهيا عن عمل جميع المعاصي ، {فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} في الدارين ، تهييج لازدياد الإخلاص ، ولطف لسائر المكلفين. {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} الأقرب منهم فالأقرب ، فإن الاهتمام بشأنهم أهم. {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} لين جانبك لهم ، مستعار على خفض الطائر جناحيه إذا أراد أن ينحط. {فَإِنْ عَصَوْكَ} ولم يتبعوك ، {فَقُلْ: إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} من عبادة غير الله . {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }.

{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} (لعله) من الخلق ، ثم قال:{ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} لما بين أن القرآن لا يصح أن يكون مما تنزلت به الشياطين ، أكد ذلك بأن يبين أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يصح أن يتنزلوا عليه من وجهين: أحدهما: أنه إنما يكون على شرير كذاب كثير الإثم ، فإن الطبائع بينهما متناسبة ، وحال محمد صلى الله عليه وسلم ، على خلاف ذلك ، وثانيهما: قوله: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كذلك.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} قيل: من أودية الكلام ، في كل أمر يخوضون ، لأن أكثر مقدماتهم خيالات لا حقيقة لها. {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} وكأنه لما كان إعجاز القرآن من جهة المعنى واللفظ  ، وقد قدحوا في المعنى بأنه مما تنزلت به الشياطين ، وفي اللفظ بأنه من حسن كلام الشعراء ، تكلم في القسمين ، وبين منافاة القرآن لهما ، ومضادة حال الرسول صلى الله عليه وسلم لحال أربابهما. {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} بإخلاص ، {وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ، وَسَيَعْلَمُ} لإقامة دين الله {الَّذِينَ ظَلَمُوا، أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} تهديد شديد ، لما في "سيعلم" من الوعد البليغ ، وفي" الذين ظلموا" من الإطلاق والتعميم ، وفي" أي منقلب ينقلبون " أي: بعد الموت ، ( إلى أي مرجع يرجعون إليه بعد مماتهم).