سورة النصر مدنية وآياتها 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ (1)

 

{ إذَأ جَاءَ نَصْرُ اللهِ } إذا جاءَك نصر الله أي إعانته إياك وإظهارك على عدوك وحفظك مما تكره من الملمات وذل أهل الدين ولا حاجة إلى تخصيصه بالإعانة والإظهار ولو كان أنسب بقوله:

 

{ وَالْفَتْحُ } وإذا متعلق بجوابها وهو سبح على المشهور الصحيح وهكذا تقول أبداً وإذا منع مانع فتأَوله والمراد بالنصر تغليبه - صلى الله عليه وسلم - على قريش وسائر العرب أو المراد نصره ونصر أُمته بعده وهذا أوله وكأَنه موجود كله في الحين.

 

وعن ابن عباس النصر صلح الحديبية والفتح فتح مكة وهذا هو الصحيح وقيل الفتح فتح بلاد الشرك ولأُمته بعده لأَن فتح مكة أوله وبابه فهو متتابع كأَنه حضر كله والنصر الإظهار على العدو وهو متقدم على الفتح ولذلك قدمه على الفتح.

 

والسورة نعي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن عباس، وجاءَ به الحديث وما بقى بعدها إلاَّ عامين ولما نزلت بكى عمر وقال قد قرب موته - صلى الله عليه وسلم - وكان الفتح في السنة الثامنة لثلاث عشرة بقيت من رمضان على رأس ثماني سنين ونصف من الهجرة وخرج إليها لليلتين مضتا من رمضان أو لثماني عشرة أو لاثنتي عشرة أو لست عشرة أو يوم الأَربعاءِ لعشر مضين بعد العصر وضعف أو لعشر بقين بعشرة آلاف من المهاجرين والأنصار كلهم وغيرهم من العرب أو باثنتي عشر ألفاً ويجمع بأَنه خرج بعشرة آلاف وتلاحق ألفان بعد ولما بلغ الكديد أفطر بين عسفان وأمج وأفطروا ولم يعلم بهم أحد حتى نزل بمر الظهران وذلك من المعجزات لكثرة الناس وكون البر للعرب والأَعراب والسفر.

 

وقد دعا - صلى الله عليه وسلم - أن يعمى عنهم الأَخبار إلاَّ أن حاطبا أخبر أهل مكة في كتاب كما مر في الممتحنة واستخلف على المدينة أبا رَهْم كلثوم بن حصين الغفاري ولا يخفى أن السورة نزلت قبل الفتح ويحمل النصر على ما كان مع الفتح المذكور وذلك إخبار بالغيب وهو معجزة، وإن نزلت السورة بعد الفتح كما زعم بعض فإذا بمعنى إذ متعلق بمحذوف أي كمل الأَمر أو تم أو تبقى للاستقبال فيتوجه الاستقبال إلى شيء مستقبل مترقب باعتبار ما يدل عليه ولو تحقق باعتباره في نفسه وفتح مكة أم الفتوح جالب لما بعد منها أو الاستقبال باعتبار المجموع الذي بعد إذا فإن منه ما هو مستقبل فإن رؤيته الناس يدخلون في دين الله أفواجاً معتبرة ولو بآخر من يدخل في دين الله عز وجل إن لم يكن النزول بعد تمام الدخول.

 

أو يراد بالنصر نصر الله الرحمن الرحيم لرسوله والمؤمنين في أمر مكة زادها الله شرفاً وحفظها وبالفتح ما كان فيها وفي غيرها ولا إشكال في الاستقبال والمجيء حقيقة في الحصول وقيل في الشروع فيما به الحصول كالتنقل ولعله مشترك وضعا وسبب الفتح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صالح قريشا في الحديبية على وضع الحرب عشر سنين وقيل عشرين ومن شاءَ كان على عهده - صلى الله عليه وسلم - ومن شاء كان معهم فكان معه - صلى الله عليه وسلم - خزاعة ومعهم بنو بكر ثم قتل بنو بكر رجلاً من خزاعة على ماء لخزاعة يسمى الوتير أسفل مكة وأعانهم قريش ببعض الرجال وبسلاح خفية ليلاً حتى أدخلوهم الحرم وقاتلوا فيه وأرسلوا بديل بن ورقاء بذلك وجاءَته جماعة أيضاً فقال:

 

" لا نصرت إنْ لم أنصركم وأن هذه السحابة تشهد بنصركم " وقال - صلى الله عليه وسلم - " كأني بأَبي سفيان جاءَكم يشد العقد " فجاءَ فاستشفع بأَبي بكر بعده - صلى الله عليه وسلم - ثم بعمر ثم بعلي أن يكلموه - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبه أحد ثم بفاطمة ثم بابنها الحسن غلاماً يدب وقال له علي لا أجد لك إلاَّ أن ترجع إلى مكة، وتقول أجرت بين الناس ولما نزلوا بمر الظهران رق العباس على أهل مكة فخرج ولقي أبا سفيان فجاءَ به إليه - صلى الله عليه وسلم - فأَركبه معه على بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال عمر دعني يا رسول الله أقتله لم يجبه وقد سبقه العباس بالأَمن وما أمن إلاَّ بعد شدة وكان يحب الفخر فقال - صلى الله عليه وسلم - " ناد في مكة من أغلق على نفسه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن " .

 

وقد قال قبل إسلامه له - صلى الله عليه وسلم - ما أفعل باللات والعزى فقال عمر اخرأ عليها فقال - صلى الله عليه وسلم - دعني وابن عمي يا عمر ولما ارتحل لدخول مكة قال يا عباس بمضيق الوادي فكلما مرت قبيلة بلوائها مثل سليم ومزينة قال مالي ولها حتى مرت الكتيبة الخضراء المهاجرون والأنصار سميت لكثرة سلاح الحديد فيهم حتى لا يظهر وإلاَّ عيونهم فقال لا طاقة على هؤلاء.

 

وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً (2)

 

{ وَرَأيْتَ النَّاسَ } أي العرب كأهل مكة والطائف وهوازن واليمن من أهل الأوثان وقيل المراد أهل اليمن قال - صلى الله عليه وسلم - " الله أكبر الله أكبر جاءَ نصر الله والفتح وجاءَ أهل اليمن قيل يا رسول الله ما أهل اليمن أي ما شأنهم قال رقيقو القلوب، الفقه يمان والحكمة يمانية " وفي رواية الإيمان يمان والحكمة يمانية وهو على ظاهره.

 

{ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أفْوَاجاً } الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - أولى من أن يجعل لكل من يصلح له على العموم البدلي والرؤية بصرية مجازية أو بمعنى المعرفة فإنه لا مانع منه ولو منعه أبو حيان ومر كلام فيه فهي على الوجهين متعدية لواحد ويدخلون حال أو بمعنى العلم فتعدى لاثنين ثانيهما يدخلون والفوج الجماعة المارة المسرعة أو مطلق الجماعة وجمعه على أفعال قياس، لأَنه معل العين ولو جمع على أفعل لثقلت الضمة على الواو كأثوب بالضم وأفواجاً حال من واو يدخلون.

 

والسورة مدنية والمدني ما بعد الهجرة ولو قبل الوصول أو في السفر أو في مكة بعدها ونزولها قريب من موته - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت السورة قال لفاطمة رضي الله عنها نعيت إلى نفسي، فبكت ثم ضحكت فقيل لها فقالت أخبرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت وأخبرني أنى أول أهله لحوقاً به فضحكت، وبين حجة الوداع وموته - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أشهر ونيف.

 

وعن قتادة مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول إذا جاءَ نصر الله والفتح بسنتين، وقيل نزلت بعد انصرافه من خيبر وعليه فأَكثر من سنتين لأَن وقعة خيبر كانت سنة سبع أواخر المحرم، وعن ابن عباس آخر سورة نزلت تامة بمرة إِذا جاءَ نصر الله والله أعلم، كان الناس يسلمون آحاد وثناء وثلاثا ولما كان الفتح كانوا يسلمون جماعات عظاماً وما مات - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ بعد إسلام العرب كلهم كما قال أبو عمر يوسف بن عبد البر الأَنصاري إلاَّ بني تعلب فإنهم بقوا على نصرانيتهم إلى أن دخلهم رجل من المغاربة وذكر الإسلام فكادوا يقتلونه.

 

وهم أن أشد على السلطان من نصارى العجم ولم يقتل أحداً إلاَّ عبد الله بن خطل، لأَنه أسلم فبعثه مصدقاً وله مولى مسلم يخدمه أمره أن يذبح تيساً فيطعمه ونام واستيقظ ولم يفعل شيئاً فقتله وارتد وقتل أمة له تغنيه بهجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحويرث بن نقيد بن وهب وكان يؤذيه بمكة وقيس بن صبابة لقتله الأنصاري الذي قتل أخاه خطأَ ولردته وأمر بقتل سارة مولاة لبني عبد المطلب وكانت تؤذيه بمكة فتغيبت حتى استؤمن لها فأَمنها وبقتل عكرمة بن أبى جهل فهرب إلى البحر فجاءَت به زوجه فأَمنه - صلى الله عليه وسلم - وأمر بقتل عبد الله بن سعد بن أبى سرح لأَنه ارتد فغيبه عثمان أخوه من الرضاعة حتى أمنه - صلى الله عليه وسلم - وكانت العرب تقول إن غلب محمد قومه أسلمنا فلما فتح مكة قالوا أهلك الله عنها أصحاب الفيل فما فتحها إلاَّ أنه نبي فأَسلموا ما بين قادمين ومرسلي الوفد حتى أنه اسلم من اليمن سبعمائة رجل بمرة وافدين بأَنفسهم وعمن وراءَهم لكن وصلوا جماعة جماعة فهم أفواج وقلوبهم لينة أسلموا بلا سيف.

 

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)

 

{ فَسَبْح بِحَمْدِ رَبِّكَ } سبح الله أي نزهه بقلبك أو مع التلفظ بسبحان الله أو بغيره عملاً لا يليق ملتبساً بالثناءِ بأَنواع المحامد وإضافة الحمد لمنصوبه لا للفاعل فهو متعلق بحال محذوفة، ويجوز تعليقه بسبح أي مع حمد ربك وجوز أن تكون الباء للاستعانة فتتعلق بسبح وهذا لا يصح إلاًَّ على جعل إضافة الحمد إلى الفاعل أي بحمد ربك نفسه وليس تسبيح من يقول صفاته هو معطلاً لبعض الصفات كما قيل ويجنب النقص فلا يقال سبحان ربى الأسفل ولو كان في موضع.

 

وقيل نزهه عن العجز عن تعجيل الفتح وأحمده على أن أخره لحكمة وهو تفسير لا يفهم من الآية بل المراد العموم كما مر وما روى عن عائشة من أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا ولك الحمد اللهم اغفر لي يتأول قوله تعالى فسبح بحمد ربك واستغفره أي يعمل بمعناه لا يوجب أن يكون تفسيراً لها ولا مرجحاً لتفسيره بذلك بل هو بعض عمومها.

 

وكذا ما في البخاري عنها أنه كان يكثر في آخر أمره سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه وقال كان ربى أخبرني أنِ سأرى علامة في أُمتي وأمرني إذا رأيتها أن سبح بحمده واستغفره فإن التسبيح المأمور به غير مختص بالعجز المنفي المذكور بل عن كل نقص والتسبيح في الحديث على العموم وكذا عن أم سلمة كان - صلى الله عليه وسلم - لا يقوم ولا يقعد ولا يجيءَ ولا يذهب إلاَّ قال سبحان الله وبحمده أستغفر قال إني أُمرت بها وقرأ السورة قال عبد الله بن مسعود لما نزل إذا جاءَ نصر الله. الخ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر إذا قرأها وركع أن يقول سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم أغفر لي إِنك أنت التواب الرحيم ثلاثا وزعم بعض أن سبح أمر بالبقاءِ على الحمد والتصرف.

 

وقيل سبح بمعنى قل سبحان الله تعجباً من تيسير الله عز وجل لك النصر والفتح على أهل الحرم بحيث لا يخطر ببال أحد وأحمده على صنعه والتعجب سبب للتسبيح وهو خروج عن الظاهر ومخالف للحديث وأيضاً التعجب غير كسبي فكيف يؤمر به وهذا من باب استعمال أداة الاستفهام للتعجب لا معناها أن هذا أمر عجيب فكذا الآية وكأَنه إخبار بأَن ذلك أمر من شأنه أن يتعجب منه وكذا تفسير الصلاة هنا بالتسبيح مخالف للظاهر ومخالف للحديث والمقام وصلاته ثماني ركعات في بيت أُم هانئ أو في داخل الكعبة أو أربع للضحى وأربع للفتح لا يجب أن تكون تفسيراً للآية بل هي بعض الآية من التسبيح والحمد ولا سيما أن الضيح أنه لم يصل الثماني حين دخل الكعبة وشهر أن الثماني بتسليمة واحدة ولو كانت أربعا للضحى وأربعا للفتح لفصل بالتسليم.

 

وصلاة الفتح مسنونة وقد صلاها سعد يوم فتح المدائن ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة متواضعاً بقلبه وجسده حتى كاد رأسه يمس عود مقدم الرحل وقال لأهل مكة ما تقولون؟ قالوا: أخ كريم قال اذهبوا فأَنتم الطلقاءِ فلقبوا بذلك وأقام بعد الفتح في مكة خمسة عشر يوماً وهو يقصر ولا يصلى صلاة الجمعة فخرج إلى هوازن وثقيف وقد نزلوا حنيناً.

 

 

{ وَاسْتَغفِرْهُ } ولو لم يكن لك ذنب إعظاماً لله تعالى وهضماً للنفس أو تعبداً وعما يصدر سهواً أو نسياناً أو عما أبيح له وكان الأولى خلافه أو عن الاقتصار عن عبادة وترك ما هو أعلى منها من العبادات والإشارة إلى قصور العابد عن الإتيان بما يليق بجلال الله تعالى ورأيت بعد ما كتبت ما هو في معناه أنه أبدا على الترقي في العبادات فكلما كان في مرتبة منها استغفر من التي كان عليها قبلها أي من الاقتصار عليها، وقيل عما قبل النبوة مع أنه لا يعمل قبلها الصغائر ولا الكبائر ومن زعم أن الصغائر تصدر من الأنبياءِ قال استغفاره منها.

 

وقيل استغفره لذنوب أُمتك ويناسبه أن الله عز وجل أمره بذلك وقال واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات وقيل لتعليم أمتك وكان يستغفر في اليوم والليلة سبعين مرة، وقيل أكثر، وقيل مائة وجاءَ به حديث وكلما قام من مجلس قال سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك ويشرع لمن سلم من الفريضة أن يستغفر ثلاثا وقدم الحمد على أن التخلي قبل التحلي لأَنه لله بالإجلال لجلاله والاستغفار لقصور في العبد ولكراهة أن يشرع الإنسان في الدعاءِ قبل التملق لله تعالى بأَلفاظ المدح والتضرع ولأن تعقيب العبادة مشروع كما شرع بعد الوضوءَ وبعد الإفاضة وبعد المكتوبة وبعد التهجد " ومن قال حين يأَوي إلى فراشه أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلاَّ هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه ولو كانت كزبد البحر ورمل عالج وورق الشجر " و " من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً " و " لو لم تذنبوا لجاءَ الله تعالى بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم ".

 

{ إنَّهُ كانَ } في الأَزل قاضياً أن يخلق الخلق ويتوب عليهم ومن شأنه أن يقبل التوبة أو كان حين خلق المكلفين.

 

{ تَوَّابَا } مبالغاً في العفو فإن صورة كراهة الله عز وجل المعصية كصورة إعراض وصورة العفو كصورة الراجع بعد الإعراض أو تواباً مبالغاً في قبول التوبة والمبالغة في الوجهين تحقيق ذلك وكثرة الإفراد من التائبين ولا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار وما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة ويناسب ذلك رجاءَ المستغفر وطمعه في القبول وكأَنه قيل لأَنه كان تواباً.

 

ولم يقل إنه كان غفاراً مع أنه قال واستغفره لأَن الاستغفار إنما ينفع مع التوبة ولا ينفع الاستغفار بلا ندم وقد قيل أن الأَصل استغفره إنه كان غفاراً وتب إليه إنه كان تواباً الله لا إله إِلاَّ هو الملك الحي القيوم ذو الجلال والإِكرام أستغفر الله الرحمن الرحيم اللهم اقض لي كل حاجة، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.