بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فريضة الحج وفوائده

 

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والإحسان والإنعام، سبحانه فرض حج البيت الحرام، وجعله ركنا من أكان الإسلام، وشرع فيه من الشعائر العظام ليصفي القلوب من أكدارها، ويطهر النفوس من أوزارها، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كلّ شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أرسله رحمة للعالمين، وسراجا للمهتدين، وإماما للمتقين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وكشف الغمة، وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، وسار على نهجه، واستن بسنته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد:

فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والعمل بما فيه رضاه، فاتقوا الله وراقبوه، وامتثلوا أوامره ولا تعصوه، واذكروه ولا تنسوه، واشكروه ولا تكفروه.

واعلموا أن حج بيت الله الحرام ركن من أركان الإسلام، وقاعدة من قواعد الدين، فرضه الله سبحانه وتعالى على المستطيع، يقول عز من قائل: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ) (البقرة/196)، ويقول سبحانه: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران/97)، وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -  قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان»، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا»، وقد روي: «من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا»،  وروي: «من مات غير حاج ولا موص فقد مات ميتة جاهلية»، وروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى الأمصار، فلا أجد رجلا بلغ السن، ووجب عليه الحج، ولم يحج؛ إلا ضربت عليه الجزية، والله ما أولئك بالمؤمنين، قالها ثلاثا.

أيها المسلمون:

إن الحج فيه من الخيرات العظيمة والفوائد الجسيمة ما لا يخطر ببال كثير من الناس، فيه استجابة لدعاء الله وأمره، فيه تلبية لنداء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (الحج/27-28)، فيه الطواف بالبيت امتثالا لقول الله عز وجل: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج/29)، فيه الصلاة عند مقام إبراهيم عليه السلام الذي جعله الله من الآيات البينات امتثالا لقوله سبحانه: (وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) (البقرة/125)، فيه السعي بين الصفا والمروة: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة/158)، فيه الوقوف بعرفة ذلكم المشعر العظيم الذي يباهي الله سبحانه وتعالى بالواقفين فيه أهل السماء «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، يقول: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا، وإذا وقفوا بعرفات، وضجت الأصوات بالحاجات باهى الله بهم ملائكة سبع سماوات، يقول: ملائكتي وسكان سبع سماواتي، انظروا إلى عبادي، أتوني من كل فج عميق شعثا غبرا، قد أنفقوا الأموال، وأتعبوا الأبدان، فوعزتي وجلالي وكرمي لأهبن مسيئهم لمحسنهم، ولأخرجنهم من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم»، فيه الاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم عندما حج حجة الوداع، كان يقول: «خذوا عني مناسككم»، فيه تذكر وحدة المسلمين، وأن البيت الحرام قبلة لجميعهم في مشارق الأرض ومغاربها، وليس هناك مؤمن إلا ويتجه إليه على الأقل في كل يوم وليلة خمس مرات، فيه تذكر حال إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ودعائهما وهما يرفعان القواعد من البيت: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (البقرة/127-129)، فيه تذكر حال إبراهيم عليه السلام ودعائه: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ *رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء * الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم/35ـ41)، فيه تذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومقاماته في أول بعثته بمكة المكرمة، وهو يتقلب في عبادة ربه عند البيت الحرام، ويدعو إلى توحيد الله عز وجل وعبادته وحده، فيه التفطن لمجاهدة النبي صلى الله عليه وسلم وصبره وتحمله لأذية قريش واستهزائهم به وبأتباعه، ووضع الأذى بين كتفيه وهو ساجد يناجي ربه، وتحديهم له ولكل من يناصره، واستهزائهم وصبّ أنواع العذاب على كل من كان يؤمن برسالته ويتابعه على دينه، ومع ذلك كله فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يزدد إلا ثباتا ونشاطا في الدعوة، وثقة بربه، وإيمانا قويا بنصر الله له ولدينه، وانتظارا للفرج، وقد حقق الله له ذلك، فنصره نصرا عزيزا، وفي خلع المسلمين ثيابهم عند إحرامهم، ولبسهم ثوبي الإحرام، وكشفهم الرؤوس، وتضرعهم إلى الله عز وجل في تلك المشاعر والمواقف في عرفات وعند المشعر الحرام وعند نحر الهدي ورمي الجمرات، وإقامتهم بمنى وذكرهم لله عز وجل، واستوائهم جميعا سيدِهم ومسودهم، شريفهم ووضيعهم، أبيضهم وأسودهم في مقام واحد في هيئة واحدة في لباس واحد، يرددون كلمة واحدة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك؛ ففي ذلك كله مظهر من مظاهر العبودية لله عز وجل، ورمز إلى قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/13)  (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) (البقرة/197).

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم؛ إنه هو البرّ الكريم.

*              *            *

الحمد لله ربّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن سيدنا و نبينا محمدا عبده ورسوله، خاتم النبيين والمرسلين، وسيّد الأولين والآخرين، وقائد الغرّ المحجلين، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيا عباد الله اتقوا الله تعالى، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة.

أيها المسلمون:

لقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضة على الحج وداعية إليه، ومرغبة فيه ومبينة ما يترتب عليه من الأجر الأوفر، والثواب المدخر لمن قام به على وجهه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله: أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «جهاد في سبيل الله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء يقول: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا»، وروي: «الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم»، وروي أيضا: «الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم»، وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة»، ففي هذه الأحاديث الشريفة يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضيلة الحج، وما يترتب عليه من الأجر العظيم لمن قصده مخلصا لله عز وجل، ملبيا دعوة ربه، مستجيبا لنداء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، محتسبا للثواب الجزيل الذي ترتب على أداء هذا النسك الشريف، فماذا يكون ثوابه؟ إن ثوابه عند الله الجنة، إن ثوابه أن يرجع الحاج كيوم ولدته أمه؛ أي نقيا من الذنوب، يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة كما يخرج المولود من بطن أمه لم يعمل سوءا، ولم يرتكب ذنبا، فعملٌ هذا جزاؤه جدير بالمسلم أن يحرص عليه كل الحرص بإخلاص وحسن قصد؛ لعله ينال هذا الأجر العظيم، والثواب الجزيل؛ لعله يصادف قبولا من ربه فيفوز فوزا عظيما، فاتقوا الله يا عباد الله، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل انقطاع الأمل وبلوغ الأجل، وسارعوا إلى أداء هذا النسك العظيم تكونوا من الفائزين المفلحين، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، وأخلصوا أعمالك لله عز وجل (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف/110) (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المزمل/20) (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) (البقرة/281) (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)  (النور/31).